الأم محنقة على ابنتها والفتاة نافرة من أمها لا يتصل بينهما حديث ولا تثبت
عين أحدهما في عين الأخرى ، إنما تتفاهمان بالإشارة أو الجمجمة . فإذا
التقت أعينهما فما أسرع الإطراق إلى رأسيهما ثم ما أسرع ما تدعو حاجة
مرتجلة منتحلة إحداهما إلى أن تولي مدبرة لتنأى عن صاحبتها فلا يكون بينهما
نظر ولا حديث .
***
أقبل من في الدار من النساء ومن انضم إليهن من نساء القرية البائسات على
الطعام مسرعات تتزاحمن بالمناكب ، ويتدافعن بالأيدي ، ويتزاجرن باللفظ
واللحظ ، ويرتفع في أثناء ذلك منهن دعاء لصاحب الدار أن يوثق الله حزامه ،
ويعلي مقامه ، ويصرف عنه الداء وينصره على الأعداء ... حتى إذا استدارت
الجماعة حول الجفان قل الكلام ، وقرت الأجسام واضطربت الأيدي وعملت الأفواه
.
***
فما أبعد ما بين هذه الأيدي الغليظة الخشنة قد تقلص جلده وتقبض وهي تغوص
بما فيها من الخبز غوصاً في القصاع فتصيب منها ما تستطيع ، وما بين تلك
الأيدي الرقيقة الناعمة المترفة التي لم تكن تمتد إلى ألطباق إلا هينة ،
والتي لم تكن تمس ما في الأطباق إلا بهذه الأدوات التي يعرفها أهل المدن
خاصة ، بل يعرفها المترفون من أهل المدن خاصة .
***
ما أبعد ما بين هذه الأفواه الفارغة التي يلقى فيه الطعام إلقاء على عجل
فلا يكاد يستقر فيها حتى تزدرده الحلوق ! وكأنه الطبيعة لم تودع هذه
الأفواه حساً تجد به لذة ما تأكل وما تشرب وإنما اتخذتها طريقاً إلى الحلوق
، ثم إلى الأجواف ، وما بين تلك الأفواه الصغيرة الضعيفة التي لم تفتح إلا
بمقدار والتي لا تلتهم ولا تلتقم ولا تنهي بما فيها إلى حلوق تزدرد ،
وغنما تطيل المضغ وتستمتع بما يمسها من الألوان ثم تنتهي به على مهل إل
حلوق تسيغه في أناة ورفق ، كأنما الأكل فن من الفنون لا بد فيه من الروية
واصطناع المهل والأناة .